فصل: باب مَوْتِ الْفَجْأَةِ الْبَغْتَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب عذاب القبر من الغيبة والبول‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ المراد بتخصيص هذين الأمرين بالذكر تعظيم أمرهما‏.‏

لا نفي الحكم عما عداهما، فعلى هذا لا يلزم من ذكرهما حصر عذاب القبر فيهما، لكن الظاهر من الاقتصار على ذكرهما أنهما أمكن في ذلك من غيرهما، وقد روى أصحاب السنن من حديث أبي هريرة ‏"‏ استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ قَالَ ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس أورده المصنف في قصة القبرين، وليس فيه للغيبة ذكر، وإنما ورد بلفظ النميمة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الطهارة‏.‏

وقيل مراد المصنف أن الغيبة تلازم النميمة لأن النميمة مشتملة على ضربين‏:‏ نقل كلام المغتاب إلى الذي اغتابه، والحديث عن المنقول عنه بما لا يريده‏.‏

قال بن رشيد‏:‏ لكن لا يلزم من الوعيد على النميمة ثبوته على الغيبة وحدها، لأن مفسدة النميمة أعظم، وإذا لم تساوها لم يصح الإلحاق إذ لا يلزم من التعذيب على الأشد التعذيب على الأخف، لكن يجوز أن يكون ورد على معنى التوقع والحذر فيكون قصد التحذير من المغتاب لئلا يكون له في ذلك نصيب انتهى‏.‏

وقد وقع في بعض طرق هذا الحديث بلفظ الغيبة كما بيناه في الطهارة، فالظاهر أن البخاري جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث والله أعلم‏.‏

*3*باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر ‏"‏ أن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ يحتمل أن يريد بالغداة والعشي غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيها‏.‏

ومعنى قوله ‏"‏ حتى يبعثك الله ‏"‏ أي لا تصل إليه إلى يوم البعث‏.‏

ويحتمل أن يريد كل غداة وكل عشي، وهو محمول على أنه يحيا منه جزء ليدرك ذلك فغير ممتنع أن تعاد الحياة إلى جزء من الميت أو أجزاء وتصح مخاطبته والعرض عليه انتهى‏.‏

والأول موافق للأحاديث المتقدمة قبل بابين في سياق المسألة وعرض المقعدين على كل أحد‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن‏.‏

قال‏:‏ والمراد بالغداة والعشي وقتهما وإلا فالموتى لا صباح عندهم ولا مساء‏.‏

قال‏:‏ وهذا في حق المؤمن والكافر واضح، فأما المؤمن المخلط فمحتمل في حقه أيضا، لأنه يدخل الجنة في الجملة، ثم هو مخصوص بغير الشهداء لأنهم أحياء وأرواحهم تسرح في الجنة‏.‏

ويحتمل أن يقال‏:‏ إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها، فإن فيه قدرا زائدا على ما هي فيه الآن‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة‏)‏ اتحد فيه الشرط والجزاء لفظا ولا بد فيه من تقدير، قال التوربشتي‏:‏ التقدير إن كان من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظا دل على الفخامة، والمراد أنه يرى بعد البعث من كرامة الله ما ينسيه هذا المقعد انتهى‏.‏

ووقع عند مسلم بلفظ ‏"‏ إن كان من أهل الجنة فالجنة ‏"‏ أي فالمعروض الجنة‏.‏

وفي هذا الحديث إثبات عذاب القبر، وأن الروح لا تفنى بفناء الجسد لأن العرض لا يقع إلا على حي‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ استدل به على أن الأرواح على أفنية القبور‏.‏

قال‏:‏ والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية قبورها لا أنها لا تفارق الأفنية، بل هي كما قال مالك إنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يبعثك الله يوم القيامة‏)‏ في رواية مسلم عن يحيى بن مالك ‏"‏ حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ‏"‏ وحكى ابن عبد البر فيه الاختلاف بين أصحاب مالك، وأن الأكثر رووه كرواية البخاري وأن ابن القاسم رواه كرواية مسلم، قال‏.‏

والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد‏.‏

ويحتمل أن يعود الضمير إلى الله‏.‏

فإلى الله ترجع الأمور، والأول أظهر ا ه‏.‏

ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ ‏"‏ ثم يقال‏:‏ هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وقد أخرج النسائي رواية ابن القاسم لكن لفظه كلفظ البخاري‏.‏

*3*باب كَلَامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كلام الميت على الجنازة‏)‏ أي بعد حملها، أورد فيه حديث أبي سعيد، وقد تقدم الكلام عليه قبل بضعة وثلاثين بابا، وترجم له ‏"‏ قول الميت وهو على الجنازة قدموني ‏"‏ قال ابن رشيد‏:‏ الحكمة في هذا التكرير أن الترجمة الأولى مناسبة للترجمة التي قبلها وهي ‏"‏ باب السرعة بالجنازة ‏"‏ لاشتمال الحديث على بيان موجب الإسراع، وكذلك هذه الترجمة مناسبة للتي قبلها كأنه أراد أن يبين أن ابتداء العرض إنما يكون عند حمل الجنازة لأنها حينئذ يظهر لها ما تؤول إليه فتقول ما تقول‏.‏

*3*باب مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما قيل في أولاد المسلمين‏)‏ أي غير البالغين‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ تقدم في أوائل الجنائز ترجمة ‏"‏ من مات له ولد فاحتسب ‏"‏ وفيها الحديث المصدر به، وإنما ترجم بهذه لمعرفة مآل الأولاد، ووجه انتزاع ذلك أن من يكون سببا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يحجب هو لأنه أصل الرحمة وسببها‏.‏

وقال النووي‏:‏ أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة‏.‏

وتوقف فيه بعضهم لحديث عائشة، يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ ‏"‏ توفي صبي من الأنصار فقلت‏:‏ طوبى له لم يعلم سوءا ولم يدركه‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلا ‏"‏ الحديث‏.‏

قال والجواب عنه أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة انتهى‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ نفى بعضهم الخلاف في ذلك‏.‏

وكأنه عنى ابن أبي زيد فإنه أطلق الإجماع في ذلك، ولعله أراد إجماع من يعتد به‏.‏

وقال المازري‏:‏ الخلاف في غير أولاد الأنبياء انتهى‏.‏

ولعل البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث أبي هريرة الذي بدأ به كما سيأتي، فإن فيه التصريح بإدخال الأولاد الجنة مع آبائهم‏.‏

وروى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند عن علي مرفوعا ‏"‏ أن المسلمين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار ‏"‏ ثم قرأ ‏(‏والذين آمنوا واتبعتهم‏)‏ الآية، وهذا أصح ما ورد في تفسير هذه الآية وبه جزم ابن عباس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو هريرة إلخ‏)‏ لم أره موصولا من حديثه على هذا الوجه، نعم عند أحمد من طريق عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة‏"‏، ولمسلم من طريق سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسب إلا دخلت الجنة ‏"‏ الحديث‏.‏

وله من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة‏:‏ دفنت ثلاثة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ لقد احتظرت بحظار شديد من النار ‏"‏ وفي صحيح أبي عوانة من طريق عاصم عن أنس ‏"‏ مات ابن للزبير فجزع عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان له‏)‏ كذا للأكثر أي كان موتهم له حجابا، وللكشميهني ‏"‏ كانوا ‏"‏ أي الأولاد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاثة من الولد‏)‏ سقط قوله ‏"‏ من الولد ‏"‏ في رواية أبي ذر، وكذا سبق من رواية عبد الوارث عن عبد العزيز في ‏"‏ باب فضل من مات له ولد فاحتسب ‏"‏ وتقدم الكلام عليه مستوفى هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما توفي إبراهيم‏)‏ زاد الإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة بسنده ‏"‏ ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وله من طريق معاذ عن شعبة بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ توفي ابنه إبراهيم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن له مرضعا في الجنة‏)‏ قال ابن التين‏:‏ يقال امرأة مرضع بلا هاء مثل حائض، وقد أرضعت فهي مرضعة إذا بني من الفعل، قال الله تعالى ‏(‏تذهل كل مرضعة عما أرضعت‏)‏ قال‏:‏ وروي ‏"‏ مرضعا ‏"‏ بفتح الميم أي إرضاعا انتهى‏.‏

وقد سبق إلى حكاية هذا الوجه الخطابي، والأول رواية الجمهور‏.‏

وفي رواية عمرو المذكورة ‏"‏ مرضعا ترضعه في الجنة ‏"‏ وقد تقدم الكلام على قصة موت إبراهيم مستوفى في ‏"‏ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنا بك لمحزونون ‏"‏ وإيراد البخاري له في هذا الباب يشعر باختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة، فكأنه توقف فيه أولا ثم جزم به‏.‏

*3*باب مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما قيل في أولاد المشركين‏)‏ هذه الترجمة تشعر أيضا بأنه كان متوقفا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة كما سيأتي تحريره، وقد رتب أيضا أحاديث هذا الباب ترتيبا يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك فإن قوله في سياقه ‏"‏ وأما الصبيان حوله فأولاد الناس ‏"‏ قد أخرجه في التعبير بلفظ ‏"‏ وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة‏.‏

فقال بعض المسلمين‏:‏ وأولاد المشركين‏؟‏ فقال‏:‏ وأولاد المشركين ‏"‏ ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعا ‏"‏ سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم ‏"‏ إسناده حسن‏.‏

وورد تفسير ‏"‏ اللاهين ‏"‏ بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعا أخرجه البزار، وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت ‏"‏ قلت يا رسول الله من في الجنة‏؟‏ قال‏:‏ النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة ‏"‏ إسناده حسن‏.‏

واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال‏:‏ أحدها أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق، ونقله البيهقي في ‏"‏ الاعتقاد ‏"‏ عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة، قال ابن عبد البر‏:‏ وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث ‏"‏ الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

ثانيها أنهم تبع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى ‏(‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏)‏ وتعقبه بأن المراد قوم نوح خاصة، وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه ‏(‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏)‏ وأما حديث ‏"‏ هم من آبائهم أو منهم ‏"‏ فذاك ورد في حكم الحربي، وروى أحمد من حديث عائشة ‏"‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال‏:‏ في الجنة‏.‏

وعن أولاد المشركين، قال‏:‏ في النار فقلت يا رسول الله لم يدركوا الأعمال، قال‏:‏ ربك أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ‏"‏ وهو حديث ضعيف جدا لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك‏.‏

ثالثها أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار، لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار‏.‏

رابعها خدم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس ضعيف أخرجه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى، وللطبراني والبزار من حديث سمرة مرفوعا ‏"‏ أولاد المشركين خدم أهل الجنة ‏"‏ وإسناده ضعيف‏.‏

خامسها أنهم يصيرون ترابا، روي عن ثمامة بن أشرس‏.‏

سادسها هم في النار حكاه عياض عن أحمد، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلا‏.‏

سابعها أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن أبى عذب، أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل‏.‏

وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في ‏"‏ كتاب الاعتقاد ‏"‏ أنه المذهب الصحيح، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار، وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال تعالى ‏(‏يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏)‏ وفي الصحيحين ‏"‏ أن الناس يؤمرون بالسجود، فيصير ظهر المنافق طبقا، فلا يستطيع أن يسجد‏"‏‏.‏

ثامنها أنهم في الجنة، وقد تقدم القول فيه في ‏"‏ باب فضل من مات له ولد ‏"‏ قال النووي‏:‏ وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، لقوله تعالى ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏)‏ وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى، ولحديث سمرة المذكور في هذا الباب، ولحديث عمة خنساء المتقدم، ولحديث عائشة الآتي قريبا‏.‏

تاسعها الوقف‏.‏

عاشرها الإمساك‏.‏

وفي الفرق بينهما دقة‏.‏

ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث‏:‏ أحدها حديث ابن عباس وأبي هريرة ‏"‏ سئل عن أولاد المشركين ‏"‏ وفي رواية ابن عباس ‏"‏ ذراري المشركين ‏"‏ ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية هذا السائل، لكن عند أحمد وأبي داود عن عائشة ما يحتمل أن تكون هي السائلة، فأخرجا من طريق عبد الله بن أبي قيس عنها قالت ‏"‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ذراري المسلمين‏؟‏ قال‏:‏ مع آبائهم‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله بلا عمل‏؟‏ قال‏:‏ الله أعلم بما كانوا عاملين ‏"‏ الحديث‏.‏

وروى عبد الرزاق من طريق أبي معاذ عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت ‏"‏ سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال‏:‏ هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال‏:‏ الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزل ‏(‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏)‏ قال‏:‏ هم على الفطرة، أو قال‏:‏ في الجنة ‏"‏ وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع رافعا لكثير من الإشكال المتقدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ

الشرح‏:‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يسمع ابن عباس هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، بين ذلك أحمد من طريق عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال‏:‏ كنت أقول في أولاد المشركين‏:‏ هم منهم، حتى حدثني رجل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيته فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ ربهم أعلم بهم، هو خلقهم وهو أعلم بما كانوا عاملين ‏"‏ فأمسكت عن قولي انتهى‏.‏

وهذا أيضا يدفع القول الأول الذي حكيناه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم‏)‏ قال ابن قتيبة‏:‏ معنى قوله ‏"‏ بما كانوا عاملين ‏"‏ أي لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء‏.‏

وقال غيره‏:‏ أي علم أنهم لا يعملون شيئا ولا يرجعون فيعملون أو أخبر بعلم شيء لو وجد كيف يكون، مثل قوله‏:‏ ‏(‏ولو ردوا لعادوا‏)‏ ولكن لم يرد أنهم يجازون بذلك في الآخرة لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ وأما حديث أبي هريرة فهو طرف من ثاني أحاديث الباب كما سيأتي في القدر من طريق همام عن أبي هريرة، ففي آخره ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير‏؟‏ قال‏:‏ الله أعلم بما كانوا عاملين ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك ‏"‏ ولأبي داود من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة نحو رواية همام‏.‏

وأخرج أبو داود عقبه عن ابن وهب سمعت مالكا وقيل له إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث يعني قوله ‏"‏ فأبواه يهودانه أو ينصرانه ‏"‏ فقال مالك‏:‏ احتج عليهم بآخره ‏"‏ الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

ووجه ذلك أن أهل القدر استدلوا على أن الله فطر العباد على الإسلام وأنه لا يضل أحدا وإنما يضل الكافر أبواه، فأشار مالك إلى الرد عليهم بقوله ‏"‏ الله أعلم ‏"‏ فهو دال على أنه يعلم بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة، فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم، ومن ثم قال الشافعي‏:‏ أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي سلمة‏)‏ هكذا رواه ابن أبي ذئب عن الزهري، وتابعه يونس كما تقدم قبل أبواب من طريق عبد الله بن المبارك عنه، وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس، وخالفهما الزبيدي ومعمر فروياه عن الزهري عن سعيد بن المسيب بدل أبي سلمة، وأخرجه الذهلي في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ من طريق الأوزاعي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وقد تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري عن أبي هريرة من غير ذكر واسطة‏.‏

وصنيع البخاري يقتضي ترجيح طريق أبي سلمة، وصنيع مسلم يقتضي تصحيح القولين عن الزهري، وبذلك جزم الذهلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كل مولود‏)‏ أي من بني آدم، وصرح به جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ كل بني آدم يولد على الفطرة ‏"‏ وكذا رواه خالد الواسطي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج ذكرها ابن عبد البر، واستشكل هذا التركيب بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر، والفرض أن بعضهم يستمر مسلما ولا يقع له شيء، والجواب أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق‏.‏

وهذا يقوي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يولد على الفطرة‏)‏ ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ ‏"‏ ما من مولود إلا يولد على الفطرة‏"‏، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه‏"‏‏.‏

وفي رواية له من هذا الوجه ‏"‏ ما من مولود إلا وهو على الملة‏"‏‏.‏

وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد أن كل من ولد على الفطرة وكان له أبوان على غير الإسلام نقلاه إلى دينهما، فتقدير الخبر على هذا‏:‏ كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلا فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه‏.‏

ويكفي في الرد عليهم رواية أبي صالح المتقدمة‏.‏

وأصرح منها رواية جعفر بن ربيعة بلفظ ‏"‏ كل بني آدم يولد على الفطرة ‏"‏ وقد اختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة، وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن ذلك فقال‏:‏ كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ كأنه عني أنه لو كان يولد على الإسلام فمات قبل أن يهوده أبواه مثلا لم يرثاه‏.‏

والواقع في الحكم أنهما يرثانه فدل على تغير الحكم‏.‏

وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره‏.‏

وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادعى فيه النسخ، والحق أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا‏.‏

وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر‏:‏ وهو المعروف عند عامة السلف‏.‏

وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏)‏ الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها‏)‏ وبحديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ‏"‏ إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ‏"‏ الحديث‏.‏

وقد رواه غيره فزاد فيه ‏"‏ حنفاء مسلمين ‏"‏ ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى ‏(‏فطرة الله‏)‏ لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه بلزومها، فعلم أنها الإسلام‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏فأقم وجهك للدين‏)‏ أي سدد لطاعته ‏(‏حنيفا‏)‏ أي مستقيما ‏(‏فطرة الله‏)‏ أي صبغة الله، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدر، أي ألزم‏.‏

وقد سبق قبل أبواب قول الزهري في الصلاة على المولود‏:‏ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام، وسيأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإسلام، وقد قال أحمد‏:‏ من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه‏.‏

واستدل بحديث الباب فدل على أنه فسر الفطرة بالإسلام‏.‏

وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن لا يصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه‏.‏

والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا‏.‏

وحكى محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ وقد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم‏.‏

وروى أبو داود عن حماد بن سلمة أنه قال‏:‏ المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد حيث قال ‏(‏ألست بربكم قالوا بلى‏)‏ ونقله ابن عبد البر عن الأوزاعي وعن سحنون، ونقله أبو يعلى بن الفراء عن إحدى الروايتين عن أحمد، وهو ما حكاه الميموني عنه وذكره ابن بطة، وقد سبق في ‏"‏ باب إسلام الصبي ‏"‏ في آخر حديث الباب من طريق يونس ثم يقول ‏(‏فطرة الله التي فطر الناس عليها - إلى قوله - القيم‏)‏ وظاهره أنه من الحديث المرفوع، وليس كذلك بل هو من كلام أبي هريرة أدرج في الخبر، بينه مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري ولفظه ‏"‏ ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم ‏"‏ قال الطيبي‏:‏ ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقوي ما أوله حماد بن سلمة من أوجه‏:‏ أحدها أن التعريف في قوله ‏"‏ على الفطرة ‏"‏ إشارة إلى معهود وهو قوله تعالى ‏(‏فطرة الله‏)‏ ومعنى المأمور في قوله‏:‏ ‏(‏فأقم وجهك‏)‏ أي اثبت على العهد القديم‏.‏

ثانيها ورود الرواية بلفظ ‏"‏ الملة ‏"‏ بدل الفطرة و ‏"‏ الدين ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏(‏للدين حنيفا‏)‏ هو عين الملة، قال تعالى ‏(‏دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا‏)‏ ويؤيده حديث عياض المتقدم‏.‏

ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس، قال‏.‏

والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد انتهى‏.‏

وإلى هذا مال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فقال‏:‏ المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث حيث قال ‏"‏ كما تنتج البهيمة ‏"‏ يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلا فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح والله أعلم‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ ليس المراد بقوله ‏"‏ يولد على الفطرة ‏"‏ أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول ‏(‏والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا‏)‏ ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلا بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا‏.‏

والله أعلم‏.‏

وفي المسألة أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وغيره‏:‏ منها قول ابن المبارك أن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام، ومن علم الله أنه يصير كافرا ولد على الكفر، فكأنه أول الفطرة بالعلم‏.‏

وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله ‏"‏ فأبواه يهودانه إلخ ‏"‏ معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي في التمثيل بحال البهيمة‏.‏

ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعا ‏(‏بلى‏)‏ أما أهل السعادة فقالوها طوعا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرها‏.‏

وقال محمد بن نصر‏:‏ سمعت إسحاق ابن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه، وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فأنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه‏.‏

ومنها أن المراد بالفطرة الخلقة أي يولد سالما لا يعرف كفرا ولا إيمانا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر وقال‏:‏ إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله‏:‏ ‏(‏حنيفا‏)‏ أي على استقامة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى‏.‏

ومنها قول بعضهم‏:‏ أن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه، وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله‏.‏

ويؤيد المذهب الصحيح أن قوله ‏"‏ فأبواه يهودانه إلخ ‏"‏ ليس فيه لوجود الفطرة شرط بل ذكر ما يمنع موجبها كحصول اليهودية مثلا متوقف على أشياء خارجة عن الفطرة، بخلاف الإسلام‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله‏:‏ ‏"‏ فأبواه يهودانه إلخ ‏"‏ محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث ‏"‏ الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأبواه‏)‏ أي المولود، قال الطيبي‏:‏ الفاء أما للتعقيب أو السببية أو جزاء شرط مقدر، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه إما بتعليمهما إياه أو بترغيبهما فيه، وكونه تبعا لهما في الدين يقتضي أن يكون حكمه حكمهما‏.‏

وخص الأبوان بالذكر للغالب، فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كمثل البهيمة تنتج البهيمة‏)‏ أي تلدها فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية وقد تقدم بلفظ ‏"‏ كما تنتج البهيمة بهيمة‏"‏، قال الطيبي‏:‏ قوله ‏"‏ كما ‏"‏ حال من الضمير المنصوب في ‏"‏ يهودانه ‏"‏ أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة تشبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة، أو هو صفة مصدر محذوف أي يغيرانه تغييرا مثل تغييرهم البهيمة السليمة، قال‏:‏ وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في ‏"‏ كما ‏"‏ على التقديرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تنتج‏)‏ بضم أوله وسكون النون وفتح المثناة بعدها جيم، قال أهل اللغة‏:‏ نتجت الناقة على صيغة ما لم يسم فاعله تنتج بفتح المثناة وأنتج الرجل ناقته ينتجها إنتاجا، زاد في الرواية المتقدمة ‏"‏ بهيمة جمعاء ‏"‏ أي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع أعضائها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل ترى فيها جدعاء‏)‏ ‏؟‏ قال الطيبي‏:‏ هو في موضع الحال أي سليمة مقولا في حقها ذلك، وفيه نوع التأكيد أي إن كل من نظر إليها قال ذلك لظهور سلامتها‏.‏

والجدعاء المقطوعة الأذن، ففيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر كان بسبب صممهم عن الحق‏.‏

ووقع في الرواية المتقدمة بلفظ ‏"‏ هل تحسون فيها من جدعاء ‏"‏ وهو من الإحساس والمراد به العلم بالشيء، يريد أنها تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك‏.‏

وسيأتي في تفسير سورة الروم أن معنى قوله‏:‏ ‏(‏لا تبديل لخلق الله‏)‏ أي لدين الله وتوجيه ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ذكر ابن هشام في ‏"‏ المغني ‏"‏ عن ابن هشام الخضراوي أنه جعل هذا الحديث شاهدا لورود ‏"‏ حتى ‏"‏ للاستثناء، فذكره بلفظ ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ‏"‏ وقال‏:‏ ولك أن تخرجه على أن فيه حذفا أي يولد على الفطرة ويستمر على ذلك حتى يكون، يعني فتكون للغاية على بابها انتهى‏.‏

ومال صاحب ‏"‏ المغني ‏"‏ في موضع آخر إلى أنه ضمن ‏"‏ يولد ‏"‏ معنى ينشأ مثلا، وقد وجدت الحديث في تفسير ابن مردويه من طريق الأسود بن سريع بلفظ ‏"‏ ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ‏"‏ الحديث‏.‏

وهو يؤيد الاحتمال المذكور‏.‏

واللفظ الذي ساقه الخضراوي لم أره في الصحيحين ولا غيرهما، إلا عند مسلم كما تقدم في رواية ‏"‏ حتى يعرب عنه لسانه ‏"‏ ثم وجدت أبا نعيم في مستخرجه على مسلم أورد الحديث من طريق كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري بلفظ ‏"‏ ما من مولود يولد في بني آدم إلا يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه ‏"‏ الحديث‏.‏

وكذا أخرجه ابن مردويه من هذا الوجه، وهو عند مسلم عن حاجب بن الوليد عن محمد بن حرب بلفظ ‏"‏ ما من مولود إلا يولد على الفطرة، أبواه يهودانه ‏"‏ الحديث‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ قُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَا انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنْ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالَا نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ قُلْتُ دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالَا إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوْ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في قصة ابن صياد وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الباب المشار إليه في الجهاد، ومقصود البخاري منه الاستدلال هنا بقوله صلى الله عليه وسلم لابن صياد ‏"‏ أتشهد أني رسول الله ‏"‏‏؟‏ وكان إذ ذاك دون البلوغ قوله‏:‏ ‏"‏ أطم ‏"‏ بضمتين بناء كالحصن‏.‏

و ‏"‏ مغالة ‏"‏ بفتح الميم والمعجمة الخفيفة بطن من الأنصار، وابن صياد في رواية أبي ذر صائد وكلا الأمرين كان يدعى به، وقوله ‏"‏فرفضه ‏"‏ للأكثر بالضاد المعجمة أي تركه، قال الزين بن المنير‏:‏ أنكرها القاضي‏.‏

ولبعضهم بالمهملة أي دفعه برجله، قال عياض‏:‏ كذا في رواية أبي ذر عن غير المستملي ولا وجه لها‏.‏

قال المازري‏:‏ لع له رفسه بالسين المهملة أي ضربه برجله، قال عياض‏:‏ لم أجد هذه اللفظة في جماهير اللغة يعني بالصاد، قال‏:‏ وقد وقع في رواية الأصيلي بالقاف بدل الفاء‏.‏

وفي رواية عبدوس ‏"‏ فوقصه ‏"‏ بالواو والقاف، وقوله ‏"‏وهو يختل ‏"‏ بمعجمة ساكنة بعدها مثناة مكسورة أي يخدعه، والمراد أنه كان يريد أن يستغفله ليسمع كلامه وهو لا يشعر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏له فيها رمزة أو زمرة‏)‏ كذا للأكثر على الشك في تقديم الراء على الزاي أو تأخيرها، ولبعضهم ‏"‏ زمزمة أو رمرمة ‏"‏ على الشك هل هو بزايين أو براءين مع زيادة ميم فيهما، ومعاني هذه الكلمات المختلفة متقاربة، فأما التي بتقديم الراء وميم واحدة فهي فعلة من الرمز وهو الإشارة، وأما التي بتقديم الزاي كذلك فمن الزمر والمراد حكاية صوته، وأما التي بالمهملتين وميمين فأصله من الحركة وهي هنا بمعني الصوت الخفي، وأما التي بالمعجمتين كذلك فقال الخطابي‏:‏ هو تحريك الشفتين بالكلام‏.‏

وقال غيره‏:‏ وهو كلام العلوج وهو صوت يصوت من الخياشيم والحلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فثار ابن صياد‏)‏ أي قام كذا للأكثر، وللكشميهني ‏"‏ فثاب ‏"‏ بموحدة أي رجع عن الحالة التي كان فيها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال شعيب زمزمة فرفصه‏)‏ في رواية أبي ذر بالزايين وبالصاد المهملة‏.‏

وفي رواية غيره ‏"‏ وقال شعيب في حديثه فرفصه زمزمة أو رمرمة ‏"‏ بالشك‏.‏

وسيأتي في الأدب موصولا من هذا الوجه بالشك، لكن فيه ‏"‏ فرصه ‏"‏ بغير فاء وبالتشديد، وذكر الخطابي في غريبه بمهملة أي ضغطه وضم بعضه إلى بعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال إسحاق الكلبي وعقيل رمرمة‏)‏ يعني بمهملتين ‏(‏وقال معمر رمزة‏)‏ يعني براء ثم زاي، أما رواية إسحاق فوصلها الذهلي في الزهريات وسقطت من رواية المستملي والكشميهني وأبي الوقت، وأما رواية عقيل فوصلها المصنف في الجهاد وكذا رواية معمر‏.‏

*3*باب مَوْتِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب موت يوم الاثنين‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ تعين وقت الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله مدخل كالرغبة إلى الله لقصد التبرك فمن لم تحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده‏.‏

وكأن الخبر الذي ورد في فضل الموت يوم الجمعة لم يصح عند البخاري فاقتصر على ما وافق شرطه، وأشار إلى ترجيحه على غيره، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ‏"‏ ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر ‏"‏ وفي إسناده ضعف، وأخرجه أبو يعلى من حديث أنس نحوه وإسناده أضعف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فِي كَمْ كَفَّنْتُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ وَقَالَ لَهَا فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَالَ فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَتْ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ قَالَ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ عَلَيْهِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ اغْسِلُوا ثَوْبِي هَذَا وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ فَكَفِّنُونِي فِيهَا قُلْتُ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ قَالَ إِنَّ الْحَيَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت عائشة‏:‏ دخلت على أبي بكر‏)‏ تعني أباها، زاد أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من هذا الوجه ‏"‏ فرأيت به الموت، فقلت هيج هيج من لا يزال دمعه مقنعا فإنه في مرة مدفوق فقال‏:‏ لا تقولي هذا، ولكن قولي ‏(‏وجاءت سكرة الموت بالحق‏)‏ الآية - ثم قال - في أي يوم ‏"‏ الحديث‏.‏

وهذه الزيادة أخرجها ابن سعد مفردة عن أبي سامة عن هشام‏.‏

وقولها ‏"‏ هيج ‏"‏ بالجيم حكاية بكائها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في كم كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي كم ثوبا كفنتم النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏؟‏ وقوله ‏"‏ في كم ‏"‏ معمول مقدم لكفنتم، قيل‏:‏ ذكر لها أبو بكر ذلك بصيغة الاستفهام توطئة لها للصبر على فقده، واستنطاقا لها بما يعلم أنه يعظم عليها ذكره، لما في بداءته لها بذلك من إدخال الغم العظيم عليها، لأنه يبعد أن يكون أبو بكر نسي ما سأل عنه مع قرب العهد، ويحتمل أن يكون السؤال عن قدر الكفن على حقيقته، لأنه لم يحضر ذلك لاشتغاله بأمر البيعة‏.‏

وأما تعيين اليوم فنسيانه أيضا محتمل لأنه صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء، فيمكن أن يحصل التردد هل مات يوم الاثنين أو الثلاثاء‏.‏

وقد تقدم الكلام على الكفن في موضعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت يوم الاثنين‏)‏ بالنصب أي في يوم الاثنين، وقولها بعد ذلك ‏"‏ قلت يوم الاثنين ‏"‏ بالرفع أي هذا يوم الاثنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرجو فيما بيني وبين الليل‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ الليلة ‏"‏ ولابن سعد من طريق الزهري عن عروة عن عائشة ‏"‏ أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما، ومات مساء ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ‏"‏ وأشار الزين بن المنير إلى أن الحكمة في تأخر وفاته عن يوم الاثنين مع أنه كان يحب ذلك ويرغب فيه لكونه قام في الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن تكون وفاته متأخرة عن الوقت الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏به ردع‏)‏ بسكون المهملة بعدها عين مهملة أي لطخ لم يعمه كله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزيدوا عليه ثوبين‏)‏ زاد ابن سعد عن أبي معاوية عن هشام ‏"‏ جديدين‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكفنوني فيهما‏)‏ أي المزيد والمزيد عليه‏.‏

وفي رواية غير أبي ذر ‏"‏ فيها ‏"‏ أي الثلاثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خلق‏)‏ بفتح المعجمة واللام أي غير جديد‏.‏

وفي رواية أبي معاوية عند ابن سعد ‏"‏ ألا نجعلها جددا كلها‏؟‏ قال‏:‏ لا،‏"‏، وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان‏.‏

ويؤيده قوله بعد ذلك ‏"‏ إنما هو للمهلة ‏"‏ وروى أبو داود من حديث علي مرفوعا ‏"‏ لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا ‏"‏ ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن أخرجه مسلم، فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة وحمل المغالاة على الثمن‏.‏

وقيل التحسين حق الميت، فإذا أوصى بتركه اتبع كما فعل الصديق، ويحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك به لكونه صار إليه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو لكونه كان جاهد فيه أو تعبد فيه‏.‏

ويؤيده ما رواه ابن سعد من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال‏:‏ قال أبو بكر ‏"‏ كفنوني في ثوبي اللذين كنت أصلي فيهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنما هو‏)‏ أي الكفن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏للمهلة‏)‏ قال عياض‏:‏ روي بضم الميم وفتحها وكسرها‏.‏

قلت‏:‏ جزم به الخليل‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ هو بالكسر الصديد، وبالفتح التمهل، وبالضم عكر الزيت‏.‏

والمراد هنا الصديد‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بقوله ‏"‏ إنما هو ‏"‏ أي الجديد، وأن يكون المراد ‏"‏ بالمهلة ‏"‏ على هذا التمهل أي إن الجديد لمن يريد البقاء، والأول أظهر‏.‏

ويؤيده قول القاسم بن محمد بن أبي بكر قال ‏"‏ كفن أبو بكر في ريطة بيضاء وريطة ممصرة وقال‏:‏ إنما هو لما يخرج من أنفه وفيه ‏"‏ أخرجه ابن سعد‏.‏

وله عنه من وجه آخر ‏"‏ إنما هو للمهل والتراب ‏"‏ وضبط الأصمعي هذه بالفتح‏.‏

وفي هذا الحديث استحباب التكفين في الثياب البيض وتثليث الكفن وطلب الموافقة فيما وقع للأكابر تبركا بذلك‏.‏

وفيه جواز التكفين في الثياب المغسولة، وإيثار الحي بالجديد، والدفن بالليل، وفضل أبي بكر وصحة فراسته وثباته عند وفاته‏.‏

وفيه أخذ المرء العلم عمن دونه‏.‏

وقال أبو عمر‏:‏ فيه أن التكفين في الثوب الجديد والخلق سواء‏.‏

وتعقب بما تقدم من احتمال أن يكون أبو بكر اختاره لمعنى فيه، وعلى تقدير أن لا يكون كذلك فلا دليل فيه على المساواة‏.‏

*3*باب مَوْتِ الْفَجْأَةِ الْبَغْتَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب موت الفجاءة، البغتة‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ هو مضبوط بالكسر على البدل، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي البغتة، ووقع في رواية الكشميهني ‏"‏ بغتة‏"‏‏.‏

والفجاءة بضم الفاء وبعد الجيم مد ثم همز، ويروى بفتح ثم سكون بغير مد، وهي الهجوم على من لم يشعر به‏.‏

وموت الفجأة وقوعه بغير سبب من مرض وغيره، قال ابن رشيد‏:‏ مقصود المصنف والله أعلم الإشارة إلى أنه ليس بمكروه، لأنه لم يظهر منه كراهيته لما أخبره الرجل بأن أمه افتلتت نفسها، وأشار إلى ما رواه أبو داود بلفظ ‏"‏ موت الفجأة أخذة أسف ‏"‏ وفي إسناده مقال، فجرى على عادته في الترجمة بما لم يوافق شرطه، وإدخال ما يومئ إلى ذلك ولو من طرف خفي انتهى‏.‏

والحديث المذكور أخرجه أبو داود من حديث عبيد بن خالد السلمي ورجاله ثقات، إلا أن راويه رفعه مرة ووقفه أخرى‏.‏

وقوله ‏"‏أسف ‏"‏ أي غضب وزنا ومعنى، وروي بوزن فاعل أي غضبان، ولأحمد من حديث أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع وقال‏:‏ أكره موت الفوات ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ وكان ذلك - والله أعلم - لما في موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة وغيرها من الأعمال الصالحة‏.‏

وقد روى ابن أبي الدنيا في ‏"‏ كتاب الموت ‏"‏ من حديث أنس نحو حديث عبيد بن خالد وزاد فيه ‏"‏ المحروم من حرم وصيته ‏"‏ انتهى‏.‏

وفي ‏"‏ مصنف ابن أبي شيبة ‏"‏ عن عائشة وابن مسعود ‏"‏ موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف على الفاجر ‏"‏ وقال ابن المنير لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة، كما وقع في حديث الباب‏.‏

وقد نقل عن أحمد وبعض الشافعية كراهة موت الفجأة، ونقل النووي عن بعض القدماء أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك، قال النووي‏:‏ وهو محبوب للمراقبين‏.‏

قلت‏:‏ وبذلك يجتمع القولان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن جعفر‏)‏ أي ابن أبي كثير المدني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا‏)‏ هو سعد بن عبادة، واسم أمه عمرة، وسيأتي حديثه والكلام عليه في الوصايا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏افتلتت‏)‏ بضم المثناة وكسر اللام أي سلبت، على ما لم يسم فاعله، يقال افتلت فلان أي مات فجأة وافتلتت نفسه كذلك، وضبطه بعضهم بفتح السين إما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثان، والفلتة والافتلات ما وقع بغتة من غير روية، وذكره ابن قتيبة بالقاف وتقديم المثناة وقال‏:‏ هي كلمة تقال لمن فتله الحب ولمن مات فجأة، والمشهور في الرواية بالفاء‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَقْبَرَهُ أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ أُقْبِرُهُ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا وَقَبَرْتُهُ دَفَنْتُهُ كِفَاتًا يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ قال بعضهم مراده بقوله ‏"‏ قبر النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المصدر من قبرته قبرا، والأظهر عندي أنه أراد الاسم، ومقصوده بيان صفته من كونه مسنما أو غير مسنم وغير ذلك مما يتعلق بعضه ببعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قول الله عز وجل‏:‏ فأقبره‏)‏ يريد تفسير الآية ‏(‏ثم أماته فأقبره‏)‏ أي جعله ممن يقبر لا ممن يلقى حتى تأكله الكلاب مثلا‏.‏

وقال أبو عبيدة في ‏"‏ المجاز ‏"‏ أقبره أمر بأن يقبر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقبرت الرجل إذا جعلت له قبرا وقبرته دفنته‏)‏ قال يحيى الفراء في المعاني‏:‏ يقال أقبره جعله مقبورا وقبره دفنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كفاتا إلخ‏)‏ روى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال في قوله‏:‏ ‏(‏ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا‏)‏ قال‏:‏ يكونون فيها ما أرادوا ثم يدفنون فيها‏.‏

ثم أورد المصنف في الباب أحاديث‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ هِشَامٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَتَعَذَّرُ فِي مَرَضِهِ أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ أَيْنَ أَنَا غَدًا اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَدُفِنَ فِي بَيْتِي

الشرح‏:‏

قوله ‏"‏إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه ‏"‏ وقد ضبط في روايتنا بالعين المهملة والذال المعجمة أي يتمنع، وحكى ابن التين أنه في رواية القابسي بالقاف والدال المهملة أي يسأل عن قدر ما بقي إلى يومها، لأن المريض يجد عند بعض أهله من الأنس ما لا يجد عند بعض‏.‏

وسيأتي الكلام على فوائد هذا الحديث والذي بعده في ‏"‏ باب الوفاة النبوية ‏"‏ آخر المغازي إن شاء الله تعالى‏.‏

والمقصود من إيرادهما هنا بيان أنه صلى الله عليه وسلم دفن في بيت عائشة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ هِلَالٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَعَنْ هِلَالٍ قَالَ كَنَّانِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يُولَدْ لِي

الشرح‏:‏

تقدم في ‏"‏ باب ما يكره من اتخاذ القبور على المساجد ‏"‏ من طريق هلال المذكور، وفي ‏"‏ باب بناء المسجد على القبر ‏"‏ من وجه آخر، وفي أبواب المساجد أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن هلال‏)‏ يعني بالإسناد المذكور إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كناني عروة بن الزبير‏)‏ أي الذي روى عنه ذلك الحديث‏.‏

واختلف في كنية هلال‏:‏ فالمشهور أنه أبو عمرو، وقيل أبو أمية، وقيل أبو الجهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سفيان التمار‏)‏ هو ابن دينار على الصحيح، وقيل ابن زياد، والصواب أنه غيره، وكل منهما عصفري كوفي‏.‏

وهو من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر الصحابة، ولم أر له رواية عن صحابي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مسنما‏)‏ أي مرتفعا، زاد أبو نعيم في المستخرج ‏"‏ وقبر أبي بكر وعمر كذلك ‏"‏ واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعي وبه جزم الماوردي وآخرون‏.‏

وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي لاحتمال أن قبره صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأول مسنما، فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال‏:‏ ‏"‏ دخلت على عائشة فقلت‏:‏ يا أمة اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ‏"‏ زاد الحاكم ‏"‏ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدما، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهذا كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة‏.‏

وقد روى أبو بكر الآجري في ‏"‏ كتاب صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند عن غنيم بن بسطام المديني قال‏:‏ رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه‏.‏

ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز، ورجح المزني التسنيم من حيث المعنى بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس بخلاف المسنم، ورجحه ابن قدامة بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا وهو من شعار أهل البدع فكان التسنيم أولى‏.‏

ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي، ثم قال‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطُ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِي بِنَائِهِ فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ فَفَزِعُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ لَا وَاللَّهِ مَا هِيَ قَدَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هِيَ إِلَّا قَدَمُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا فروة‏)‏ هو ابن أبي المغراء، وعلي هو ابن مسهر، وثبت ذلك في رواية أبي ذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لما سقط عليهم الحائط‏)‏ أي حائط حجرة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية الحموي عنهم‏:‏ والسبب في ذلك ما رواه أبو بكر الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال‏:‏ أخبرني أبي قال ‏"‏ كان الناس يصلون إلى القبر فأمر به عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال‏:‏ هذا ساق عمر وركبته، فسري عن عمر بن عبد العزيز ‏"‏ وروى الآجري من طريق مالك بن مغول عن رجاء بن حيوة قال‏:‏ كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز - وكان قد اشترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - أن اهدمها ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية، ثم أمر بهدمها، فما رأيته باكيا أكثر من يومئذ‏.‏

ثم بناه كما أراد‏.‏

فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة وكان الرمل الذي عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له‏:‏ أصلحك الله، إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلا أن يصلحها، ورجوت أنه يأمرني بذلك، فقال‏:‏ يا مزاحم - يعني مولاه - قم فأصلحها‏.‏

قال رجاء‏:‏ وكان قبر أبي بكر عند وسط النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر خلف أبي بكر رأسه عند وسطه‏.‏

وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع وإلا فحديث القاسم أصح‏.‏

وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة ‏"‏ أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره ‏"‏ فسنده ضعيف، ويمكن تأويله‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

وَعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن هشام‏)‏ هو بالإسناد المذكور، وقد أخرجه المصنف في الاعتصام من وجه آخر عن هشام وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبدة عن هشام وزاد فيه ‏"‏ وكان في بيتها موضع قبر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا أزكى‏)‏ بضم أوله وفتح الكاف على البناء للمجهول، أي لا يثنى علي بسببه ويجعل لي بذلك مزية وفضل وأنا في نفس الأمر يحتمل أن لا أكون كذلك، وهذا منها على سبيل التواضع وهضم النفس بخلاف قولها لعمر كنت أريده لنفسي فكأن اجتهادها في ذلك تغير أو لما قالت ذلك لعمر كان قبل أن يقع لها ما وقع في قصة الجمل فاستحيت بعد ذلك أن تدفن هناك وقد قال عنها عمار بن ياسر وهو أحد من حاربها يومئذ‏:‏ إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وسيأتي ذلك مبسوطا في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى، وهو كما قال رضي الله تعالى عنهم أجمعين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلَامَ ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلَأُوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا لَدَيْكَ قَالَ أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي وَإِلَّا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ فَمَنْ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ كَانَ لَكَ مِنْ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَقَالَ لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ خَيْرًا أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأيت عمر بن الخطاب قال يا عبد الله بن عمر‏)‏ هذا طرف من حديث طويل سيأتي في مناقب عثمان وزاد فيه ‏"‏ وقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين ‏"‏ وفي أوله قدر ورقة في سياق مقتله وفي آخره قدر صفحة في قصة بيعة عثمان‏.‏

قال ابن التين‏.‏

قول عائشة في قصة عمر ‏"‏ كنت أريده لنفسي ‏"‏ يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهو يغاير قولها عند وفاتها لا تدفني عندهم فإنه يشعر بأنه بقي من البيت موضع للدفن‏.‏

والجمع بينهما أنها كانت أولا تظن أنه لا يسع إلا قبرا واحدا فلما دفن ظهر لها أن هناك وسعا لقبر آخر، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ إنما استأذنها عمر لأن الموضع كان بيتها وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به على نفسها فآثرت عمر‏.‏

وفيه الحرص على مجاورة الصالحين في القبور طمعا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم وفي دعاء من يزورهم من أهل الخير‏.‏

وفي قول عمر ‏"‏ قل يستأذن عمر فإن أذنت ‏"‏ أن من وعد عدة جاز له الرجوع فيها ولا يلزم بالوفاء‏.‏

وفيه أن من بعث رسولا في حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه ولا يعد ذلك من قلة الصبر بل من الحرص على الخير‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما ينهى من سب الأموات‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ لفظ الترجمة يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقا‏.‏

والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس السابق حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير وبالشر ‏"‏ وجبت، وأنتم شهداء الله في الأرض ‏"‏ ولم ينكر عليهم‏.‏

ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية والمراد به المسلمون، لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم‏.‏

وقال القرطبي في الكلام على حديث ‏"‏ وجبت ‏"‏ يحتمل أجوبة، الأول أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهرا به فيكون من باب لا غيبة لفاسق، أو كان منافقا‏.‏

ثانيها يحمل النهي على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه‏.‏

ثالثها يكون النهي العام متأخرا فيكون ناسخا، وهذا ضعيف‏.‏

وقال ابن رشيد ما محصله‏:‏ أن السب ينقسم في حق الكفار وفي حق المسلمين، أما الكافر فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم، وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة، وقد يجب في بعض المواضع، وقد يكون فيه مصلحة للميت، كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن ذلك المال يرد إلى صاحبه‏.‏

قال‏:‏ ولأجل الغفلة عن هذا التفضيل ظن بعضهم أن البخاري سها عن حديث الثناء بالخير والشر، وإنما قصد البخاري أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة، وهذا الممنوع هو على معنى السب، ولما كان المتن قد يشعر بالعموم أتبعه بالترجمة التي بعده‏.‏

وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة‏.‏

والوجه عندي حمله على العموم إلا ما خصصه الدليل‏.‏

بل لقائل أن يمنع أن ما كان على جهة الشهادة وقصد التحذير يسمى سبا في اللغة‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير - وقد تكون منه الفلتة - فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، فكذلك الميت‏.‏

ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن، والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار إلى قبره أمسك عنه لإفضائه إلى ما قدم‏.‏

وقد عملت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي، فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه كما سأذكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنْ الْأَعْمَشِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ الْأَعْمَشِ تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ وَابْنُ عَرْعَرَةَ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفضوا‏)‏ أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر، واستدل به على منع سب الأموات مطلقا، وقد تقدم أن عمومه مخصوص، وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم‏.‏

وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورواه عبد الله بن عبد القدوس ومحمد بن أنس عن الأعمش‏)‏ أي متابعين لشعبة، وأنس والد محمد كالجادة، وهو كوفي سكن الدينور، وثقه أبو زرعة وغيره، وروى عنه من شيوخ البخاري إبراهيم بن موسى الرازي‏.‏

وأما ابن عبد القدوس فذكره البخاري في التاريخ فقال‏:‏ إنه صدوق إلا أنه يروي عن قوم ضعفاء‏.‏

واختلف كلام غيره فيه، وليس له في الصحيح غير هذا الموضع الواحد‏.‏

ووقع لنا أيضا من رواية محمد بن فضيل عن الأعمش بزيادة فيه، أخرجه عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب أخبار البصرة ‏"‏ عن محمد بن يزيد الرفاعي عنه بهذا السند إلى مجاهد ‏"‏ إن عائشة قالت‏:‏ ما فعل يزيد الأرجي لعنه الله‏؟‏ قالوا‏:‏ مات‏.‏

قالت‏:‏ أستغفر الله‏.‏

قالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ فذكرت الحديث ‏"‏ وأخرجه من طريق مسروق ‏"‏ إن عليا بعث يزيد بن قيس الأرجي في أيام الجمل برسالة فلم ترد عليه جوابا، فبلغها أنه عاب عليها ذلك فكانت تلعنه، ثم لما بلغها موته نهت عن لعنه وقالت‏:‏ إن رسول الله نهانا عن سب الأموات ‏"‏ وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الأعمش عن مجاهد بالقصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه علي بن الجعد‏)‏ وصله المصنف في الرقاق عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومحمد بن عرعرة وابن أبي عدي‏)‏ لم أره من طريق محمد بن عرعرة موصولا، وطريق ابن أبي عدي ذكرها الإسماعيلي‏.‏

ووصله أيضا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة، وهو عند أحمد عنه‏.‏

*3*باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ذكر شرار الموتى‏)‏ تقدم في الباب قبله من شرح ذلك ما فيه كفاية‏.‏

وحديث الباب أورده هنا مختصرا، وسيأتي مطولا مع الكلام عليه في تفسير الشعراء إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الجنائز من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث وعشرة أحاديث، المعلق من ذلك والمتابعة ستة وخمسون حديثا، والبقية موصولة‏.‏

المكرر من ذلك فيه وفيما مضى مائة حديث وتسعة أحاديث، والخالص مائة حديث وحديث‏.‏

وافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة وعشرين حديثا وهي‏:‏ حديث عائشة ‏"‏ أقبل أبو بكر على فرسه‏"‏، وحديث أم العلاء في قصة عثمان ابن مظعون، وحديث أنس ‏"‏ أخذ الراية زيد فأصيب‏"‏، وحديثه ‏"‏ ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة‏"‏، وحديث عبد الرحمن بن عوف ‏"‏ قتل مصعب بن عمير‏"‏، وحديث سهل بن سعد ‏"‏ أن امرأة جاءت ببردة منسوجة‏"‏، وحديث أنس ‏"‏ شهدنا بنتا للنبي صلى الله عليه وسلم‏"‏، وحديث أبي سعيد ‏"‏ إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال‏"‏، وحديث ابن عباس في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، وحديث جابر في قصة قتلى أحد ‏"‏ زملوهم بدمائهم‏"‏، وحديثه في قصة استشهاد أبيه ودفنه، وحديث صفية بنت شيبة في تحريم مكة، وحديث أنس في قصة الغلام اليهودي، وحديث ابن عباس ‏"‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين ‏"‏ وقد وهم المزي تبعا لأبي مسعود في جعله من المتفق، وقد تعقبه الحميدي على أبي مسعود فأجاد، وحديث أبي هريرة الذي يخنق نفسه كما أوضحته فيما مضى، وحديث عمر ‏"‏ أيما مسلم شهد له أربعة بخير‏"‏، وحديث بنت خالد بن سعيد في التعوذ، وحديث البراء لما توفي إبراهيم، وحديث سمرة في الرؤيا بطوله لكن عند مسلم طرف يسير من أوله، وحديث عائشة ‏"‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين‏"‏، وحديثها في وصيتها أن لا تدفن معهم، وحديث عمر في قصة وصيته عند قتله، وحديث عائشة ‏"‏ لا تسبوا الأموات‏"‏، وحديث ابن عباس في قول أبي لهب‏.‏

وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة ومن بعدهم ثمانية وأربعون أثرا، منها ستة موصولة، والبقية معلقة‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏